الانتخابات في ظل الحكم الاستبدادي- هل هي طريق التغيير أم تثبيت للسلطة؟

المؤلف: جمال الطاهر10.10.2025
الانتخابات في ظل الحكم الاستبدادي- هل هي طريق التغيير أم تثبيت للسلطة؟

لا يزال الشعب التونسي، على اختلاف مشاربه السياسية والشعبية، متباينًا في رؤيته للانتخابات الرئاسية المرتقبة، المقرر إجراؤها في السادس من أكتوبر/تشرين الأول القادم، بين مؤيد للمشاركة فيها وبين داعٍ للمقاطعة.

وهذا التساؤل لا يقتصر بأي حال من الأحوال على الوضع التونسي الراهن بكل ما يحمله من خصوصيات، بل يندرج في إطار سؤال أزلي يطل برأسه في كل استحقاق انتخابي تشهده الأنظمة الاستبدادية: هل يمكن الإطاحة بالانقلابات العسكرية وأنظمة الحكم القمعية عبر صناديق الاقتراع؟

تشير التجارب المتراكمة في العديد من البلدان، عبر حقب وأزمنة متباينة، إلى أن أغلب الدول التي شهدت تغييرًا في السلطة عن طريق الانقلابات، ترسّخت فيها قبضة الانقلابيين، وفرضت أنظمة قمعية خانقة لا يمكن تغييرها إلا بانقلاب مضاد.

عادةً ما تميل الأنظمة السياسية التي تصل إلى السلطة عبر الانقلابات إلى إرساء دعائم نظام سياسي شمولي، لا يفسح المجال حتى لأدنى هامش من الحريات والديمقراطية. وفي الحالات النادرة التي رضخت فيها الأنظمة الاستبدادية الانقلابية لضغوط الواقع وأجرت انتخابات تشريعية أو رئاسية، فإنها لا تقدم على هذه الخطوة إلا إذا كانت على يقين تام بأن هذه الانتخابات ستجري تحت سيطرتها الكاملة، وأنها ستكون الطرف الفائز حتمًا، والمستفيد الأكبر من حيث تجميل صورتها بمسحة زائفة من الديمقراطية "المقننة" أو "الموجهة" لتعزيز أركان حكمها.

لقد كان هذا النهج هو السائد لدى أغلب الأنظمة الانقلابية في قارتي أفريقيا وأميركا الجنوبية، وفي بعض الدول العربية، ومنها نظام الرئيس قيس سعيد في تونس.

على الرغم من تكرار هذا المشهد في معظم الحالات الانقلابية، إلا أن التاريخ لا يخلو من استثناءات بارزة، حيث نجحت الانتخابات في إنهاء حكم جاء عبر انقلاب عسكري، وتحقيق انتقال سلمي للسلطة، وإقامة نظام حكم مدني. تجسد ذلك في نيجيريا، حيث وضعت انتخابات عام 1999 حدًا لسنوات طويلة من الحكم العسكري والانقلابات المتتالية.

وتكرر الأمر ذاته في تشيلي عام 1988، عندما أسدلت الانتخابات الستار على حكم الجنرال أوغستو بينوشيه، الذي أطاح عام 1973 بالرئيس المنتخب ديمقراطيًا سلفادور ألليندي. أما في بيرو، فقد اضطر ألبرتو فوجيموري، بعد أن حكم البلاد بقبضة من حديد عقب انقلابه الذاتي عام 1992، إلى الاستقالة تحت وطأة ضغوط محلية ودولية متزايدة، إثر اتهامات بالتزوير في انتخابات عام 2000، ليتم الدعوة إلى انتخابات جديدة في عام 2001، أسفرت عن فوز أليخاندرو توليدو بمنصب رئيس البلاد. وشهدت بوليفيا عام 1982، والفلبين عام 1986، وغانا عام 2000، سيناريوهات مماثلة.

تؤكد هذه الأمثلة الحية أن الإطاحة بالانقلابات وإنهاء حكم الأنظمة الاستبدادية من خلال الانتخابات أمر ممكن التحقق. وتثير هذه الاستثناءات تساؤلًا جوهريًا: ما هي الشروط الأساسية التي تجعل من الانتخابات، في ظل نظام انقلابي استبدادي، آلية فاعلة لتغيير هذا النظام وإرساء دعائم نظام مدني ديمقراطي؟

بادئ ذي بدء، يجب التذكير بأن إسقاط الانقلابات عبر الانتخابات ليس بالأمر الهين، بل هو عملية معقدة للغاية تتوقف على توافر جملة من الشروط المحلية والدولية، لا سيما إذا كانت الأنظمة الانقلابية تعتمد سياسة القمع والتسلط وتقييد الحريات كأسلوب ومنهج في إدارة شؤون الحكم.

  • أولًا: وجود معارضة سياسية ومدنية قوية ومنظمة وذات تأثير ملموس في الرأي العام، تكون على أهبة الاستعداد لخوض غمار المنافسة في الانتخابات وتحقيق الفوز المنشود. ويتطلب وجود هذه المعارضة بهذه المواصفات، كلها أو أغلبها، بناء ديناميكية إيجابية داخل صفوف المعارضة تقوم على تعزيز القواسم المشتركة، وتحقيق التوافقات الكبرى، وترتيب الأولويات لتقديم ذلك في إطار رؤية سياسية شاملة تعبّر عن مشروع وطني بديل لحكم الانقلاب.

كما تحتاج هذه المعارضة إلى تعزيز الثقة بينها وبين مختلف شرائح الشعب، وخاصة قواه الحية التي تمثل وقود التغيير. ويتطلب نجاح هذا المسار تضافر جهود قوى المعارضة في إطار جبهة سياسية وانتخابية موحدة، دون أن يعني ذلك بالضرورة إلغاء الاختلافات بينها.

كما يقتضي نجاح هذا التوجه في بناء معارضة قوية تقديم مرشح واحد، وخاصة في الدور الثاني من الانتخابات، تتوفر فيه مقومات القبول الشعبي والقدرة على المنافسة الانتخابية، والاتفاق أيضًا على رؤية واضحة لإدارة شؤون الحكم في حال الفوز، تجعل من تحقيق الوعود الانتخابية وإحداث نقلة نوعية في حياة المواطنين، هدفًا وغاية.

  • ثانيًا: وجود مزاج شعبي عام تواق إلى التغيير، نتيجة لاستيائه ويأسه من قدرة النظام القائم على تحسين ظروف حياته، وخاصة المعيشية. قد تكتم الشعوب غضبها من حكامها لفترات طويلة، ولكنها سرعان ما تنتفض وتثور عندما تجد الشرارة التي تشعل فتيل الغضب، وتنتقل من مربع الصمت إلى مربع الاحتجاج للتعبير عن رفضها للواقع المرير والمطالبة بالتغيير المنشود.

قد يعبّر الشعب الغاضب عن رغبته في التغيير عبر أحد المسارين التاليين: مسار الاحتجاج المدني المتصاعد الذي قد يتحول إلى انتفاضة عارمة ثم إلى ثورة شاملة على النظام، أو مسار المشاركة الواسعة والفاعلة في الانتخابات لهزيمة مرشح النظام.

يعتبر الشوق الشعبي للتغيير شرطًا حيويًا وحاسمًا من شروط إسقاط الانقلابات والأنظمة الاستبدادية. وتتضاعف أهمية هذا الشوق الشعبي للتغيير بمشاركة قوى التغيير الفاعلة، مثل: الشباب والعمال والنساء من خلال منظماتهم ومؤسساتهم، بالإضافة إلى القوى "المهمشة" أو غير "المنظمة" من العاطلين عن العمل، ومن غير المنتمين إلى منظمات المجتمع المدني والسياسي.

  • ثالثًا: توفر الحد الأدنى المطلوب من الضمانات اللازمة لنزاهة الانتخابات وشفافيتها، وهو أمر لا يتحقق إلا بإحدى ثلاث طرق. أولها؛ الضغط السياسي والمدني المتراكم عبر محطات مختلفة، والذي يجبر النظام الانقلابي الاستبدادي على الالتزام بتنظيم الانتخابات وفق المعايير الدولية المتعارف عليها لحرية الانتخابات ونزاهتها وشفافيتها، ويشمل ذلك: القانون الانتخابي، والهيئة المشرفة على الانتخابات، وترتيبات العملية الانتخابية، والرقابة الصارمة على سيرها وعلى فرز الأصوات. هذا المسار قد يمهد الطريق أمام فوز المعارضة وتحقيق التغيير السياسي عبر انتقال سلمي للسلطة.

أما الطريق الثاني؛ فهو رغبة النظام الانقلابي في امتصاص الضغوط المتزايدة عليه من الداخل والخارج عن طريق إجراء الانتخابات أولًا، وتوفير الحد الأدنى من الشروط الديمقراطية لإجرائها، دون المخاطرة بفقدان السيطرة والمبادرة، والوقوع في فخ انتخابات قد تدفعه إلى خارج السلطة، وما يترتب على ذلك من محاسبة وملاحقة وعواقب وخيمة.

الطريق الثالث؛ هو حرص منظومة الانقلاب على ضمان استمرار قبضتها المحكمة على السلطة، وإن استدعى الأمر تغيير رأس النظام عبر انتخابات "محكمة" ومتحكم بنتائجها مسبقًا.

قد يتيح الطريقان الثاني والثالث للنظام الانقلابي الاستبدادي الاستمرار في الحكم بمسحة ديمقراطية زائفة سرعان ما تتلاشى، اكتسبها من مشاركة المعارضة في الانتخابات، مما يسد المنافذ أمام أي تغيير سياسي حقيقي يفضي إلى إقامة نظام حكم مدني ديمقراطي حقيقي.

وبالإضافة إلى الشروط الداخلية الضرورية، يتطلب إسقاط الانقلابات توافر بعض الشروط الخارجية المساعدة، ومنها:

  • أولًا: دعم المجتمع الدولي المدني الحقوقي والعامل في مجال مراقبة الانتخابات، بما يحاصر نزعات الأنظمة الانقلابية والاستبدادية من التغول في انتهاك حقوق الإنسان، ويحول دون سعيها لتزوير نتائج الانتخابات، وقبل ذلك إرغامها على توفير الحد المقبول من ضمانات نزاهة الانتخابات، وسلامة المسار الانتخابي برمته.

لقد شهدت العديد من الحالات التي نجحت فيها "المقاومة الانتخابية" في إسقاط الانقلابات، معارك ضارية بين المجتمع المدني المحلي والدولي، وبين الأنظمة الانقلابية، انتهت بإذعان هذه الأنظمة والتراجع عن الكثير من إجراءاتها القمعية، والكف عن العديد من الخروقات والتجاوزات، مما أدى في النهاية إلى تحسين البيئة الانتخابية، ومنح الشعوب الأمل في التغيير من خلال المشاركة المكثفة في الانتخابات.

  • ثانيًا: وجود جوار إقليمي داعم أو على الأقل متقبل للتغيير وغير معادٍ له، إما لوجود خصومة سابقة مع النظام الانقلابي وإمكانية التعاون مع الحاكم الجديد، أو تقبلًا للأمر الواقع والحرص على التعامل معه وعدم معاداته لأسباب داخلية أو إقليمية ودولية. وأيًا كان الدافع، فإن وجود جوار إقليمي داعم أو غير معادٍ يعتبر أمرًا بالغ الأهمية ويساعد على إسقاط الانقلاب عبر الانتخابات، كما أنه يمثل عاملًا من عوامل استقرار الحكم الجديد.

هذه الشروط بشقيها: المحلي والخارجي، ليست وصفة جاهزة لا يمكن إسقاط الانقلابات إلا بتوافرها كاملة غير منقوصة، فقد يتوفر بعضها في البداية، ثم تأتي بقيتها لاحقًا، وقد تتداخل شروط أخرى مساعدة نتيجة لظروف وسياقات داخلية وخارجية متغيرة. هذه الشروط هي دروس مستفادة من أغلب التجارب التي نجحت فيها الانتخابات، حتى وهي تجري تحت حكم أنظمة انقلابية واستبدادية، في تحقيق تغيير مدني سلمي نحو نظام ديمقراطي.

ويبقى إسقاط الانقلابات بالانتخابات مسارًا طويلًا تتراكم فيه النضالات والمكاسب من روافد متعددة، تساهم في تهيئة الظروف الملائمة للتغيير، حتى يصبح واقعًا ملموسًا يراه المناضلون والمراقبون في تغير موازين القوة لصالح حركة التغيير. وعندما تحين الانتخابات في مثل هذا السياق، فإنها تمثل لحظة حاسمة في مسيرة التغيير، بعد أن نجحت المعارضة في إضعاف الانقلاب وتوجيه العديد من الضربات الموجعة إليه.

أخيرًا، لا يمكن اختزال الموقف من الانتخابات في الحالة التونسية وغيرها من الحالات المماثلة في ثنائية حادة بين المشاركة والمقاطعة، بل إن الفيصل في هذا الموقف هو مدى قدرته على تحقيق الأهداف المرجوة.

إن الأنسب في الحالة التونسية المحفوفة بالغموض والتقلبات، هو بناء الموقف على أساس تقييم سياسي دقيق لميزان القوى، وعبر مسار تتحرك فيه قوى التغيير من موقع الفاعل المؤثر، وليس الملاحظ الذي يقف على هامش الأحداث، وبشكل يمنح هذه القوى القدرة على المتابعة الدقيقة لمسار الانتخابات في كل مراحله وتقلباته وتعقيداته، والتأثير فيه من خلال الضغط المتواصل من أجل تحسين البيئة الانتخابية، وتعبئة الشارع الانتخابي المتعطش للتغيير للمشاركة بكثافة يوم الاقتراع، فما أسقط انقلابًا بالضربة القاضية إلا انقلابٌ عليه، أما إسقاط الانقلاب بالانتخابات فلن يتحقق إلا عبر مسار طويل الأمد من النضال السياسي السلمي والمدني، وعبر المشاركة الواسعة والفاعلة يوم الاقتراع.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة